شهدت المنطقة العربية على مدى عقود ظاهرة الثورات والانتفاضات الشعبية أدت إلى كثير من التحولات السياسية في الأنظمة الحاكمة، هذه التحولات الجذرية التي بدأت بمطالب مشروعة للإصلاح والتغيير، ثم تحولت في كثير من الحالات إلى كوارث حقيقية أطاحت ليس فقط بالأنظمة السياسية، وإنما بالدول نفسها وبمقومات استقرارها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ولقد كشفت التجربة العربية الحديثة أن الثورات -رغم نبل أهدافها التي أعلنها مشعلوها- ، تحمل في طياتها مخاطر جسيمة تهدد كيان الدولة الوطنية وتقوض أسس الأمن المجتمعي.
ولعل أولى هذه المخاطر تكمن في الطبيعة الانفجارية غير المحسوبة للثورات العربية. ففي غياب القيادات السياسية الواعية والأطر المؤسسية القادرة على قيادة عملية التغيير، تحولت كثير من الثورات إلى فوضى عارمة. ولقد شهدنا كيف تحولت الميادين التي انطلقت منها شعارات الحرية والكرامة إلى ساحات للاقتتال الداخلي، حيث تتصارع القوى المختلفة على السلطة في غياب أي رؤية واضحة للمرحلة الانتقالية. هذا الصراع الذي كثيراً ما يأخذ طابعاً طائفياً أو مناطقياً أو عرقياً، يهدد النسيج الاجتماعي للدول العربية الذي تشكل عبر قرون من التاريخ المشترك.
أما الخطر الثاني فيتمثل في انهيار مؤسسات الدولة العميقة، وخاصة الأجهزة الأمنية والعسكرية. ففي غياب هذه الأجهزة، التي كثيراً ما كانت تعاني من الاستقطاب السياسي والفساد، تفقد الدولة أهم أدواتها في حفظ الأمن والنظام العام. لقد رأينا كيف تحولت بعض العواصم العربية إلى ساحات مفتوحة للصراعات المسلحة بين الميليشيات المختلفة، وكيف أصبحت الحدود بين الدول العربية مجرد خطوط وهمية في ظل انتشار الجماعات المسلحة وعصابات التهريب والجريمة المنظمة.
ولا يمكن إغفال البعد الاقتصادي الكارثي للثورات. فالدول التي شهدت ثورات عانت من انهيار اقتصادي حاد، مع تدمير البنية التحتية، وهروب رؤوس الأموال، وانهيار القطاعات الإنتاجية، وارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات قياسية. هذا الانهيار الاقتصادي يغذي بدوره دوامة العنف والصراع، حيث يجد الشباب المحبط أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مر: إما الهجرة غير الشرعية أو الانضمام إلى الجماعات المسلحة.
أما أخطر النتائج فهي ما يتعلق بمسألة الهوية الوطنية. فالثورات العربية، وخاصة تلك التي تحولت إلى صراعات مسلحة، أعادت إحياء الانتماءات ما قبل الوطنية من طائفية وعشائرية ومناطقية.
ولقد شهدنا كيف تحولت بعض المدن العربية إلى كانتونات متناحرة، وكيف أصبح الولاء للطائفة أو العشيرة أقوى من الولاء للوطن. هذا التفتيت للهوية الوطنية يهدد بزوال دول بأكملها من الخريطة السياسية، أو تحولها إلى كيانات هشة غير قادرة على ممارسة سيادتها على أراضيها.
في مواجهة هذه المخاطر، تبرز الحاجة إلى إعادة التفكير في مفهوم التغيير السياسي في العالم العربي. فالتجربة أثبتت أن التغيير الفوضوي غير المحسوب، رغم كل الشعارات البراقة التي يرافقه، يؤدي في النهاية إلى دمار شامل. إن المطلوب هو إصلاح حقيقي ينطلق من احترام مؤسسات الدولة ويعمل على تطويرها، لا تدميرها. إصلاح يأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات التاريخية والاجتماعية للدول العربية، ويجنب المنطقة مخاطر العودة إلى عصر الفوضى و”حرب الجميع ضد الجميع”.
إن الدروس المستفادة من الثورات العربية تؤكد أن الاستقرار ليس رفاهية، بل هو شرط أساسي لأي تنمية حقيقية. وأن التغيير، لكي يكون إيجابياً، يجب أن يكون تدرجياً ومؤسسياً وقائماً على التوافق الوطني، لا على العنف والاقتتال. فالدول العربية، بكل تحدياتها، تبقى الإطار الوحيد القادر على حماية المواطنين وضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة.