يتساءل كثير من المقربين عن سبب توجههي الشديد نحو تأليف الكتب وقضاء أوقات طويلة في مكتبتي، ولهم أقول.. وللأجيال من بعدي ….
أن تأليف الكتب من اصدق الوسائل وأجمل الطرق نحو إرضاء الذات ناهيك عن كونه وسيلة للتعبير الحر عن الأفكار والمشاعر التي قد لا تجد منفذاً آخر في الحياة اليومية. فالكتابة تمنح الكاتب مساحة آمنة لتفريغ ما يعتمل في داخله من أحلام، هواجس، ذكريات، وتطلعات. هذه العملية التعبيرية بحد ذاتها تمثل شكلاً من أشكال العلاج النفسي، حيث تتحول الكلمات إلى جسر بين العالم الداخلي للفرد والعالم الخارجي. وعندما تتراكم هذه الكلمات لتصبح كتاباً مكتملاً، يشعر المؤلف بإنجاز عميق، ليس فقط لأنه أنتج عملاً ملموساً، ولكن لأنه نجح في تحويل مشاعره وأفكاره إلى شيء يمكن للآخرين رؤيته، لمسه، والتفاعل معه.
علاوة على ذلك، فإن تأليف كتاب يتطلب مستوى عالياً من الانضباط الذاتي والالتزام، مما يعزز شعور الكاتب بالكفاءة والثقة بالنفس. فإتمام كتاب ليس مهمة يسيرة؛ إنها تتطلب ساعات طويلة من البحث، الكتابة، المراجعة، والتعديل. كل خطوة في هذه الرحلة تمنح المؤلف إحساساً بالتقدم والإنجاز، مما يغذي تقديره لذاته ويقوي إيمانه بقدراته. وعندما يرى الكاتب مشروعه يتحول من فكرة عابرة إلى مخطوطة، ثم إلى كتاب منشور، فإنه يشعر بإحساس لا يوصف من الفخر والرضا، ليس فقط لأن ما كتبه أصبح حقيقة ملموسة، ولكن لأنه أثبت لنفسه أنه قادر على تحويل أحلامه إلى واقع.
بالإضافة إلى ذلك، فإن عملية التأليف تتيح للمؤلف فرصة فريدة لترك إرث دائم. فالكتب تعيش طويلاً، وتستطيع أن تؤثر في حياة القراء لسنوات، بل ولأجيال قادمة. هذا الإدراك بأن أفكار الكاتب ومشاعره قد تصبح مصدر إلهام أو عزاء لشخص آخر في مكان أو زمان مختلف، يضفي على عملية الكتابة معنى أعمق. إنه شعور بالتواصل الإنساني الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان، مما يمنح المؤلف إحساساً بالانتماء إلى شيء أكبر من نفسه. وهذا بدوره يعزز الرضا الذاتي، لأنه يذكر الكاتب بأن له قيمة، وأن كلماته يمكن أن تحدث فرقاً في العالم.
لكن ربما يكون أحد أهم الجوانب التي تجعل التأليف مصدراً للرضا الذاتي هو الطبيعة التأملية للكتابة. فعندما يغوص الكاتب في عملية الخلق الأدبي، فإنه يدخل في حالة من التركيز العميق تشبه التأمل، حيث ينسى العالم الخارجي وينغمس تماماً في لحظة الإبداع. هذه الحالة، التي يطلق عليها علماء النفس مصطلح “التدفق” (Flow)، تعد من أكثر التجارب إشباعاً للإنسان، لأنها تجمع بين التحدي والمتعة، بين بذل الجهد والشعور بالإنجاز. فالكتابة في هذه الحالة لا تكون مجرد وسيلة للتعبير، بل تصبح غاية في حد ذاتها، مصدراً للبهجة والرضا الداخلي.
ومع ذلك، فإن الطريق إلى إرضاء الذات عبر التأليف ليس خالياً من التحديات. فالكثير من الكتاب، وخاصة المبتدئين، يواجهون لحظات من الشك الذاتي، الإحباط، أو حتى الخوف من النقد. ولكن هذه التحديات نفسها هي التي تجعل عملية إتمام الكتاب مجزية للغاية. فالتغلب على الصعوبات، إكمال المسودة الأولى، تجاوز مراحل المراجعة المضنية، كلها خطوات تعلم الكاتب الصبر، المثابرة، وقبل كل شيء، تقبل الذات بكل نقاط قوتها وضعفها. وعندما يصل الكاتب إلى النهاية، فإنه لا يكتفي بإنتاج كتاب، بل يكتسب أيضاً نمواً شخصياً يصعب تحقيقه عبر أي وسيلة أخرى.
ومن هنا بدأت خطواتي نحو تأليف الكتب في رحلة نحو الذات، وسيلة لاكتشافها، فهمها، وقبولها. ووصولا إلى الرضا الذاتي التام .. محاولا لبناء علاقة أكثر عمقاً مع قلمي الذي تركته مجبرا لسنوات.