النصيحة في الإسلام- لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم

عن أبي رقِيَّة تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الدين النصيحة” ثلاثاً (أي كررها ثلاث مرات). قلنا: لمن؟ قال: “لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم”. أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.

وفيما يلي شرح مبسط لهذا الحديث ، نسأل الله عز وجل أن يبارك في العمل وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم.

النصيحة لله تعالى

النصيحة لله تعالى من أعظم مقامات الدين وأساسًا جوهريًا في العقيدة الإسلامية، فهي ليست مجرد سلوك أخلاقي أو توجيه تربوي، بل هي تعبير عن حقيقة الإيمان الصادق، ومظهر من مظاهر العبودية الخالصة لله سبحانه وتعالى. إن هذه النصيحة تمثل لبّ الدين، وعمق العلاقة التي تربط العبد بخالقه، وقد دلّ على ذلك قوله تعالى: وما خلقتُ الجنّ والإنس إلا ليعبدون (الذاريات: 56). فغاية الوجود الإنساني هي تحقيق العبودية الكاملة لله، والنصيحة له تعالى تعكس هذه الغاية بأسمى صورها، لما تتضمنه من إخلاص وتوحيد وتعظيم وامتثال لأوامره واجتناب لنواهيه.

من أهم أركان النصيحة لله تعالى الإخلاص في العبادة، إذ يُعدّ الإخلاص الشرط الأول لقبول العمل عند الله. فالإخلاص هو أن يكون العمل نقيًا من شوائب الرياء والسمعة، وموجهًا لوجه الله وحده دون سواه. وقد أكد العلماء، ومنهم ابن القيم، على أن الإخلاص هو تصفية العمل من كل ما يشوبه، مشيرًا إلى أن العمل الذي يخالطه الرياء يُفسد، ولو كان في ظاهره حسنًا. والإخلاص لا يقتصر على النية فقط، بل يشمل القول والفعل، فيُخلص المسلم في توحيده، وفي عباداته، وفي أقواله، فلا ينطق إلا بما يُرضي الله، ولا يعمل إلا ما يتقرب به إليه سبحانه.

ولا يمكن أن يتحقق الإخلاص إلا بنفي الشرك بجميع أنواعه، فالشرك يُفسد الأعمال ويُبطلها، وهو من أعظم الذنوب. وينقسم الشرك إلى شرك أكبر يخرج من الملة، كالاعتقاد بوجود شريك لله في الربوبية أو الألوهية، وشرك أصغر، كأن يعمل الإنسان ليراه الناس أو ليسمعوا به، وهو ما يُعرف بالرياء. وكلا النوعين يقوضان بناء الإخلاص ويهدمان صرح التوحيد.

أما ثمرات الإخلاص فهي كثيرة وعظيمة، منها: قبول الأعمال عند الله، والفوز برضوانه، والحصول على الأجر المضاعف، والنجاة من عذابه. فكلما كان العمل خالصًا لله، كانت البركة فيه أعظم، والثواب عليه أوفر، وكان العبد أقرب إلى رضا ربه.

ومن أبرز صور النصيحة لله تعالى كذلك: الاعتقاد الصحيح في أسمائه وصفاته، وهو من أعظم أبواب العقيدة، إذ أن معرفة الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى تزيد في تعظيمه ومحبته والخوف منه ورجائه. وقد كان منهج أهل السنة والجماعة في هذا الباب قائمًا على إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تمثيل ولا تكييف، وذلك استجابة لقوله تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (الشورى: 11). فالإيمان بالأسماء والصفات على وجهها الحق يورث محبة الله، ويعمّق الخشية منه، ويغرس في القلب الطمأنينة والثقة، كما يُعين على حسن الظن بالله ويقوي الأمل في رحمته.

وقد وقع بعض الناس في أخطاء جسيمة في هذا الباب، كمن تأول الصفات على غير ظاهرها، أو شبّه الله بخلقه، أو عطل صفاته، أو غلا في بعضها، وكل ذلك منافٍ للنصيحة الخالصة لله، ويمثل انحرافًا عن منهج السلف الصالح الذين أثبتوا ما أثبته الله لنفسه كما يليق بجلاله، من غير زيادة ولا نقصان، ومن غير تأويل ولا تشبيه.

كما تشمل النصيحة لله تعالى الذب عن دينه، والدفاع عن شرعه، وصون العقيدة من التحريف والتزييف، وقد أمر الله تعالى عباده بنصر دينه، ووعد من ينصره بالنصر والتمكين، فقال: ولينصرنّ الله من ينصره (الحج: 40). والذب عن الدين لا يقتصر على القتال فحسب، بل يشمل كل صور الدفاع العلمي والفكري والإعلامي والتربوي، بما يتناسب مع العصر والحاجة. فالرد على الشبهات، ومواجهة الحملات الإعلامية المغرضة، وتصحيح المفاهيم، وتفنيد الأفكار المنحرفة، كلها من صور الذب عن الإسلام في هذا الزمان. ويُشترط لذلك العلم الراسخ، والإخلاص لله، والتحلي بالحكمة، والعدل في القول والفعل، حتى لا يتحول الدفاع عن الدين إلى مثار للفرقة أو وسيلة لظلم الآخرين.

ويُعدّ من أعظم مظاهر النصيحة لله: محبته وخشيته ورجاؤه، إذ أن هذه المقامات الإيمانية تمثل لبّ العبودية القلبية التي تثمر في العمل الظاهر، فمحبة الله هي أسمى مراتب الدين، وهي التي تدفع العبد لطاعته وتعظيمه، والتقرب إليه بكل ما يحب. ومن دلائل هذه المحبة: اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحبة ما يحبه الله، وكراهية ما يبغضه، والمواظبة على ذكره والتقرب منه. وتزداد هذه المحبة بوسائل كثيرة منها: تلاوة القرآن بتدبر، والتفكر في نعم الله وآلائه، وكثرة النوافل.

أما خشية الله فهي خوف نابع من العلم به وتعظيمه، وهي من صفات المؤمنين الراسخين في العلم، كما قال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء (فاطر: 28). والخشية توصل إلى الاستقامة والورع، وتثمر رضا الله، والنجاة من عقابه، وتكفير الذنوب. وتتحقق الخشية بتعظيم أسماء الله وصفاته، والتفكر في الموت والآخرة، ومراقبة الله في السر والعلن، ومحاسبة النفس.

وأما الرجاء فهو انتظار رحمة الله وفضله، مقرونًا بالسعي والعمل الصالح، وهو لا يعني الاتكال ولا الأمن من مكر الله، بل هو رجاء منضبط بضوابط الشرع. فمن علامات الرجاء الصحيح: الثقة بفضل الله، وحسن الظن به، والاستعانة به في كل الأمور، والمسارعة إلى التوبة والإنابة عند الخطأ والتقصير.

ولتحقيق النصيحة الكاملة لله تعالى، ينبغي للمؤمن أن يتزود بالعلم الشرعي الصحيح، وأن يتدرج في التربية الإيمانية، وأن يجاهد نفسه باستمرار، وأن يحرص على صحبة صالحة تعينه على الطاعة وتذكره بالله. فبذلك تستقيم الحياة، وتتحقق العبودية الحقة، وتكون النصيحة لله قولًا وعملًا واعتقادًا، وتثمر خيرًا في الدنيا والآخرة.

 

النصيحة لكتاب الله تعالى

يمثّل كتاب الله تعالى، القرآن الكريم، المصدرَ الأول للتشريع، والمرجع الأعلى في جميع مجالات الدين والحياة. والنصيحة له ليست مجرّد موقف عاطفي أو تعبير وجداني، بل هي ممارسة إيمانية تشمل جوانب متعددة من الاعتقاد والعمل والسلوك، وتعكس في مجملها عمق الارتباط بين المسلم وكتاب ربه. ومن هذا المنطلق، يمكن تناول النصيحة للقرآن الكريم باعتبارها التزاماً شمولياً يعبر عن تعظيم هذا الكتاب العزيز، والوفاء بحقوقه، والقيام بما أوجبه الله في شأنه.

أولاً: التعبد بتلاوته وتدبره

يُعدّ تلاوة القرآن الكريم من أعظم وجوه التعبد، فهو كلام الله المعجز الذي يُثاب المسلم على كل حرف منه، كما ورد في الحديث الصحيح: من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها…” (رواه الترمذي). ولا تقتصر العلاقة بالقرآن على مجرد القراءة اللفظية، بل تتعداها إلى التدبر والفهم، فالتلاوة ينبغي أن تكون مغمورة بالخشوع، مؤطرة بالآداب، ومحفوفة بالنية الصادقة لطلب الهداية.

ومن أهم الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم أثناء التلاوة: الطهارة الظاهرة والباطنة، وافتتاح القراءة بالاستعاذة من الشيطان الرجيم، ثم التلفظ بالبسملة في بداية السور، مع التزام الترتيل والتأني والتوقف عند المعاني، بحيث لا يكون القارئ همّه سرعة الانتهاء، بل العبور من ظاهر اللفظ إلى عمق الدلالة.

أما التدبر، فهو الغاية الكبرى من إنزال القرآن الكريم، كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ (ص: 29). ومن لوازم التدبر فهم معاني الكلمات، وتأمل السياقات التي وردت فيها الآيات، ومعرفة أسباب النزول، وربط المقروء بواقع القارئ واحتياجاته الروحية والسلوكية.

ولكي يتحقق التدبر بصورة عملية، ينصح بأن يكون للمسلم ورد يومي يتناسب مع قدرته، مع القراءة من مصحف مفسّر، والتركيز على آية أو آيتين في كل مرة لاستخلاص العبر والدروس، وتسجيل هذه الفوائد كتابياً لتثبيتها وتفعيلها.

ثانياً: العمل بأحكامه والتحاكم إليه

من مقتضيات النصيحة لكتاب الله أن يُجعل مرجعاً عملياً في جميع شؤون الحياة، وليس مجرد نص محفوظ في الصدور أو مقروء في المناسبات. فالقرآن الكريم لم ينزل ليُتلى فقط، بل ليُتبع، ويُطبّق، ويُحتكم إليه في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، وكل ما يتصل بسلوك الفرد والمجتمع.

وقد أكد القرآن الكريم على هذا المعنى في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ (الأعراف: 3)، وقوله: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ (النساء: 65). ويشمل التحاكم إلى القرآن جميع صور الحياة: منازعات الأفراد، قضايا المجتمع، السياسات العامة، وحتى العلاقات الدولية.

غير أن تفعيل هذا العمل يواجه عدداً من التحديات، أبرزها: الجهل بالأحكام الشرعية، وغلبة الهوى، وتأثير الأعراف المناقضة لنصوص الشريعة، وضعف الالتزام الإيماني. ومن هنا تأتي الحاجة الملحة إلى تعليم الأحكام المستنبطة من القرآن، وتربية النفس على طاعة الله دون مساومة، وتجديد الإيمان بقوة هذا المنهج الرباني في إصلاح الفرد والمجتمع.

ثالثاً: حفظه من التحريف والتأويل الباطل

حفظ كتاب الله تعالى لا يعني فقط الحفاظ على ألفاظه من التغيير، بل يتسع ليشمل صيانة معانيه من التحريف، وأحكامه من التعطيل، وروحه من التأويلات الفاسدة التي تسلبه حيويته وقدرته على التوجيه.

وقد تعهّد الله تعالى بنفسه بحفظ كتابه، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر: 9). ويشمل هذا الحفظ الأبعاد اللفظية والمعنوية، سواء عبر النقل المتواتر للنص، أو من خلال الجهود التفسيرية المعتمدة على منهج السلف، أو بالدراسات العلمية التي تكشف انحرافات بعض القراءات المعاصرة.

ويُعدّ من أخطر أشكال التعدي على القرآن: تحريف النصوص، أو تأويلها بما يخالف ظاهرها بلا دليل، أو إنكار بعض ما جاءت به، أو السخرية من أحكامه وأخباره. وهنا تبرز مسؤولية العلماء والدعاة، إذ يقع عليهم واجب البيان والدفاع، وتصحيح المفاهيم، وتوجيه العامة نحو الفهم الصحيح المستمد من أصول الشريعة.

رابعاً: تعليمه ونشره بين الناس

من أبرز صور النصيحة للقرآن تعليم الناس ألفاظه ومعانيه، وإيصال هديه إلى من لم يصله، سواء كان من المسلمين أم من غيرهم. فتعليم القرآن باب من أبواب الدعوة، ووسيلة عظيمة لنشر نور الهداية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: خيركم من تعلم القرآن وعلّمه (رواه البخاري)، في دلالة واضحة على شرف هذه المهمة وعلو مكانتها.

وتتنوّع الوسائل الممكنة لتعليم القرآن بحسب الظرف والإمكانات، فمنها ما هو تقليدي كحلقات المساجد والمدارس المتخصصة، ومنها ما هو حديث كالدورات الإلكترونية والمنصات الرقمية. كما يدخل في هذا الباب تعليم غير المسلمين عن القرآن، وترجمة معانيه إلى لغاتهم، مع توضيح ما يحتويه من قيم إنسانية وأحكام ربانية.

أما معلم القرآن، فله من الآداب ما يليق بمكانة القرآن الذي يعلمه، وأبرزها: الإخلاص في النية، والحرص على تمثّل معاني القرآن في سلوكه، والصبر على التلاميذ، ومراعاة اختلاف مستوياتهم وفهمهم، بحيث يكون التعليم موجهاً ومثمراً ومراعياً لخصوصية كل متعلم.

 

النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم

تمثل النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركناً أساسياً من أركان الدين، وهي امتداد طبيعي للنصيحة لله تعالى. فكما أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان برسوله، فإن النصيحة لله تستلزم النصيحة لرسوله الكريم. وهذه النصيحة ليست مجرد كلمات تقال، بل هي مواقف عملية تترجم حب المؤمن لرسول الله وتمسكه بسنته.

وتتجلى النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً في محبته التي يجب أن تعلو على كل محبة، فهي محبة تقتضي الطاعة والاتباع. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه المحبة شرطاً من شروط الإيمان، مؤكداً أن الإيمان لا يكتمل حتى يكون الرسول أحب إلى المسلم من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين. وهذه المحبة ليست عاطفة مجردة، بل تظهر في صور عملية كثيرة، منها الإكثار من الصلاة عليه، ودراسة سيرته، والتمسك بسنته، والدفاع عنه أمام الطاعنين.

ومن مظاهر النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تصديق كل ما أخبر به، فهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى. وهذا التصديق يشمل أخباره عن الماضي والمستقبل، وأحكامه الشرعية، وما جاء من الوعد والوعيد. فالمسلم يصدق رسول الله في كل ما أخبر، سواء فهم الحكمة من ذلك أم لم يفهمها، لأن تصديق الرسول جزء من الإيمان به.

 

كما أن النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تظهر في اتباع سنته وهديه، فالسنة النبوية هي التطبيق العملي للقرآن، وهي المصدر الثاني للتشريع في الإسلام. والمسلم الحقيقي هو الذي يجعل سنة رسول الله منهجاً له في كل شؤون حياته، في عباداته ومعاملاته، في أخلاقه وآدابه، في سره وعلانيته. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من مخالفة سنته، وبين أن من أعرض عنها فقد عرض نفسه للخطر.

 

والذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته من أهم مظاهر النصيحة له، وهذا الذب يشمل الدفاع عن شخصه الكريم، وعن سنته وهديه، والرد على الشبهات التي تثار حوله. وقد برز هذا المعنى جلياً في مواقف الصحابة رضوان الله عليهم، الذين ضربوا أروع الأمثلة في الدفاع عن رسول الله ونصرته. وفي عصرنا الحاضر، تتنوع وسائل الذب عن الرسول، فمنها إنشاء المراكز البحثية التي تدرس سيرته، وإنتاج الأعمال الفنية الهادفة التي تعرض حياته، والرد العلمي على الشبهات التي تثار حوله.

 

وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشرها بين الناس من أعظم صور النصيحة له، فإحياء السنة يعني العمل بها، وتعليمها للناس، والدعوة إليها، والذب عنها. وقد تنوعت طرق نشر السنة في عصرنا، فمنها طباعة كتب السنة وتحقيقها، وإقامة الدورات العلمية لدراستها، وإنشاء المواقع المتخصصة في خدمتها، وإدراجها في المناهج التعليمية. لكن هناك عقبات تواجه القيام بهذا الواجب، منها الجهل بالسنة الصحيحة، وانتشار البدع، والهجوم على السنة من قبل أعداء الإسلام، وضعف الاهتمام بالسيرة النبوية عند بعض المسلمين.

 

النصيحة لأئمة المسلمين

تُعدّ النصيحة لأئمة المسلمين من المبادئ الجوهرية في بنية المجتمع الإسلامي، وهي إحدى صور النصيحة التي جاء بها الحديث النبوي الشريف حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم (رواه مسلم). وتكمن أهميتها في التأثير الواسع الذي يمارسه الأئمة، سواء أكانوا ولاة في الحكم، أم علماء في الدين، أم قادة في مجالات الإصلاح والتوجيه. ومتى صلح أمر الأئمة، صلح حال الأمة وتماسكت أركانها.

الإمامة في الإسلام ليست مجرد منصب إداري أو مكانة تشريفية، بل هي تكليف شرعي ومسؤولية أخلاقية، تتطلب الرعاية المستمرة والمناصحة الصادقة. وتشمل الإمامة في هذا السياق كلا النوعين: الإمامة الكبرى التي تتمثل في ولاة الأمور من الخلفاء والحكّام ومن في حكمهم، والإمامة الصغرى التي تشمل الأئمة في الصلاة، والعلم، والدعوة، والتعليم. وعلى اختلاف صور الإمامة، فإنها تتطلب دعماً إيمانيًا ونصيحة رشيدة تضمن سلامة المنهج واستقامة المسار.

تتمثل النصيحة للأئمة في طاعتهم في المعروف، والوقوف معهم في ما يحقق العدل ويمنع الظلم، وتقديم النصح البناء إذا ظهر منهم خطأ أو تقصير، ويُراعى في ذلك أن تكون النصيحة خالية من التشهير، صادرة من إخلاص وحرص، مستندة إلى العلم والبيّنة، ومستهدفة الإصلاح لا التشويش. والمقصود بالمعروف هنا كل ما وافق الشريعة وأقرّته الأخلاق الإسلامية، فلا طاعة في معصية الخالق، بل الطاعة قائمة على ميزان الشرع وأحكامه.

ومن صور النصيحة المهمة الدعاء لهم بالهداية والصلاح، إذ يعدّ هذا من أنفع الوسائل في تقويم الولاة وتثبيتهم على الحق. وقد درج السلف الصالح على ذلك، فكانوا يُكثرون من الدعاء للأئمة، لا عليهم، لما في ذلك من حفظ لمصالح الأمة، ودرء للفتن، وسدّ لأبواب الفوضى والفرقة. كما أن التعاون مع الأئمة في مشروعات الخير العامة، من إقامة العدل، وبناء المؤسسات، ونشر العلم، وتعزيز الاستقرار، يُعد من أصدق صور النصيحة، لأنه يُترجم إلى واقع عملي تتجلى فيه روح التعاون والتكامل.

وتحتاج هذه النصيحة إلى قدر كبير من الوعي والبصيرة، فلا تُقدَّم بعشوائية أو اندفاع، بل تضبطها قواعد وآداب ينبغي مراعاتها. من أبرز تلك الآداب الإخلاص لله تعالى، فالناصح لا يبتغي مدحًا ولا مكسبًا، بل يبتغي وجه الله وإصلاح الأمة. كما أن الحِكمة في الطرح والأسلوب تمثل جوهر النصيحة المقبولة، وهي ما دعا إليه القرآن في قوله تعالى: ادْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، ومن الحِكمة أيضًا مراعاة المقام واختيار الأسلوب المناسب بحسب حال الإمام وظرفه.

ويُعدّ اختيار الوقت المناسب أحد أبرز ضوابط النصيحة، إذ إن الكلمة في غير وقتها قد تضر أكثر مما تنفع، والنصيحة إذا قُدمت في لحظة انفعال أو توتر، فقد تُقابل بالرفض أو سوء الظن. ومن الأدب كذلك أن تُقدّم النصيحة سرًا، لما في ذلك من حفظ هيبة الإمام، ومنع إشاعة الفتنة، وحماية النصيحة من أن تتحول إلى وسيلة للتحريض أو التهييج.

 

النصيحة لعامة المسلمين

تُعدّ النصيحة لعامة المسلمين من أسمى صور التعاون الإيماني، وهي مظهر من مظاهر التراحم والتكافل بين أفراد الأمة الإسلامية، حيث يتحمل كل فرد في المجتمع مسؤولية تجاه غيره، في ضوء ما علّمه الإسلام من أخلاق العناية، وروح الأخوة، وسعي الإصلاح. وقد جاء الحثّ عليها صريحاً في السنة النبوية، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم أحد أركان الدين، كما في قوله: الدين النصيحة، مؤكداً بذلك أن المسلم لا يكتمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويرشده إلى الخير كما يحب أن يُرشَد إليه.

النصيحة لعامة المسلمين تتجلى في صور متعددة، يشملها الإرشاد إلى طريق الطاعة، والتنبيه إلى مواطن الخطأ، وتعليم الناس أمور دينهم بأسلوب يراعي تفاوت الفهم وتنوع الأحوال، إضافةً إلى المساعدة في تجاوز الأزمات، وحلّ المشكلات التي تعترضهم في حياتهم اليومية، سواء كانت دينية أو اجتماعية أو مادية. كما تدخل في معناها حماية أعراض المسلمين من التعدي، وصيانة كرامتهم، وتقديم العون لمن يحتاج إليه، سواء أكان ذلك مادياً أم معنوياً.

ومن أوسع مجالات النصيحة لعامة الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من خصائص هذه الأمة التي وصفها الله تعالى بقوله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ، وهو واجب يُمارَس بمراتب متعددة بحسب القدرة والعلم والمقام، كما ورد في الهدي النبوي الشريف. وتشمل النصيحة أيضًا تعليم الجاهل، وتوجيه الحائر، ومساعدة العاجز، والتوسط في الإصلاح بين المتخاصمين، وتثبيت الخائف، وتسكين قلوب المضطربين، والوقوف إلى جانب المحتاجين والضعفاء.

إن من تمام هذه النصيحة أن تكون مقرونة بالرحمة، لا بالغلظة، وبالحرص، لا بالاستعلاء. فالمسلم الناصح لا يتعامل مع غيره من باب التفوق أو التوبيخ، بل من باب المحبة والشفقة، يتألم لألمهم، ويفرح لفرحهم، ويستشعر أن في إرشاده لهم إصلاحًا لنفسه قبل غيره. ومن تمام النصيحة كذلك تحقيق العدل في التعامل مع الناس، مهما اختلفت طبقاتهم وأوضاعهم، فينصح الغني والفقير، والعالم والجاهل، والكبير والصغير، بلا تفرقة ولا محاباة، بل بمنهج يقوم على المساواة والصدق والحرص.

ولأن الناس متفاوتون في قدراتهم، فقد جعل الإسلام هذه المسؤولية جماعية وموزعة بحسب الطاقة والاستطاعة. فالعالِم ينصح بعلمه وتعليمه، والغني ينصح ببذله وسخائه، وصاحب الجاه بنفوذه وشفاعته، والقوي بحمايته ومناصرته، وصاحب الخبرة بمشورته وتوجيهه، وهكذا يساهم كل فرد بنصيحته في بناء مجتمع متماسك متعاون، يقوم على القيم المشتركة والخير العام.

وآخر دعوانا .. أن الحمد لله رب العالمين

 

 

 

Author: ibn alislam

اترك تعليقاً