حثّ أهل العلم طلابهم على الحفظ، والطريق في إحكامه كثرة التكرار والإعادة، والناس يتفاوتون في ذلك: فمنهم من يثبت معه المحفوظ مع قلة التكرار، ومنهم من لا يحفظ إلا بعد التكرار الكثير، فينبغي للإنسان أن يعيد بعد الحفظ ليثبت معه المحفوظ، ولا سيما في حفظ القرآن الكريم، فعن أبي موسى -رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “تعاهدوا هذا القرآن، فو الذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها “([1])، وعن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ” إنّما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت”([2])، وقوله: (تعاهدوا القرآن) أي: داوموا على تكراره ودرسه لئلا تنسوه، وتعاهد الشيء وتعهده محافظته وتجديد العهد به، والمراد منه الأمر بالمواظبة على تلاوته والمداومة على تكراره ودرسه([3]).
ومن الضروري لمن أراد الحفظ مراعاة أوقاته، قال الخطيب البغدادي: فأحسن أوقات الحفظ: وقت السحر. (الثلث الأخير من الليل)، وانتصاف النهار، أول النهار دون آخره، وحفظ الليل أصلح من حفظ النهار، هذا في الكثير الغالب، وقد يناسب إنسانًا ما لا يناسب آخر، وكل يختار ما هو أصلح له([4])، وعن أماكن الحفظ: يقول الخطيب البغدادي: “وأجود أماكن الحفظ: الغرف دون السفل، وكل موضع بعيدٍ ممّا يلهي ويخلو القلب فيه عما يشغله، ويتجنب الحفظ على شطوط الأنهار، وقوارع الطرق، وبحضرة النبات والخضرة؛ فليس يعدم في هذه المواضع ما يمنع غالبًا من خلو القلب، وصفاء السر”([5])، ومن الأسباب التي يستعان بها على الحفظ: إخلاص النية، وترك المعاصي، فينبغي أن يقصد الطالب بالحفظ ابتغاء وجه الله تعالى والنصيحة للمسلمين في الإيضاح والتبيين، قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: إنّما يحفظ الرجل على قدر نيته، قال محمد بن النضر: سمعت يحيى بن يحيى يقول: سأل رجلٌ مالك بن أنس: يا أبا عبد الله، هل يصلح لهذا الحفظ شيء؟ قال: إن كان يصلح له شيء فترك المعاصي([6]).
([1]) البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، (1422هـ)، صحيح البخاري، تحقيق: جماعة من العلماء، صَوّرها بعنايته عن الطبعة السلطانية ببولاق: محمد زهير الناصر، دار طوق النجاة، بيروت، الطبعة الأولى، كتاب فضائل القرآن، باب استذكار القرآن وتعاهده، 6/193، ح (5033).
([2]) النيسابوري، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، (1334هـ)، (مرجع سابق)، كتاب فضائل القرآن وما يتعلق به، باب الأمر بتعاهد القرآن، وكراهة قول: نسيت آية كذا، وجواز قول: أنسيتها، 1/543، ح (789).
([3]) ينظر: المناوي، عبد الرؤوف بن تاج العارفين، (المتوفى: 1031هـ)، (1356هـ)، فيض القدير شرح الجامع الصغير، المكتبة التجارية الكبرى – مصر، الطبعة الأولى، 3/249.
([4]) البغدادي، الخطيب أبو بكر أحمد بن علي (ت463هـ)، (1421هـ)، الفقيه والمتفقه، تحقيق: عادل بن يوسف الغرازي، دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الثانية، 2/207.
([5]) البغدادي (1421هـ)، الفقيه والمتفقه، (مرجع سابق)، 2/208.
([6]) البغدادي (1421هـ)، الفقيه والمتفقه، (مرجع سابق)، 2/207.