من أخلاق الإسلام: الصدق

الصدق

إنّ الصدق من أعظم خصال الإيمان، وأشرف ما يتحلى به الإنسان، وهو أحد دعائم البناء الأخلاقي في الإسلام، بل لا يكاد يصحّ إيمان عبدٍ ولا يستقيم دينه ما لم يكن صادقًا في قوله وفعله ونيّته ومظهره ومخبره. فالصدق مظهر الإيمان، وعنوان الإخلاص، وهو خلق الأنبياء والصالحين، وسمة المقرّبين والأتقياء. وقد مدح الله عباده الصادقين في غير موضع، وجعل الصدق من سمات أهل الجنة، فقال تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، فهذا الجزاء الكريم لا يكون إلا لمن تحقّق خلق الصدق في أقوالهم وأعمالهم، والتزموه في السراء والضراء، فكان صدقهم شاهدًا على إيمانهم، وبرهانًا على نبلهم، وجوازًا لدخولهم الجنة. وقد خاطب الله تعالى المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، أي الزموا الصدق وصاحِبوا أهله، وكونوا منهم في القول والعمل، فإنّ الله مع الصادقين ينصرهم ويهديهم ويعلي شأنهم، وهم أولى برضوانه ورحمته. وقد أمر الله نبيَّه عليه الصلاة والسلام أن يدعو الله بقوله: {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ}، أي اجعل لي مدخلًا محمودًا عند دخول المدينة، ومخرجًا مباركًا عند الخروج من مكة، فكانت كل تحركاته مقرونة بالصدق.

وقد كان النبي محمد ﷺ يُلقّب في الجاهلية بالصادق الأمين، قبل أن يُبعث بالرسالة، فشهد له أعداؤه قبل أوليائه، وكان صدقه دليله وبرهانه حتى حينما كذّبه الكافرون، قالوا: ما جرّبنا عليك كذبًا قط. وبلغ من صدقه في تبليغ الرسالة أنه ما كتم شيئًا مما أوحاه الله إليه، ولم يُحابِ في دين الله قريبًا ولا بعيدًا، بل أدّى الأمانة وبلّغ الرسالة ونصح الأمة، فاستحق أن يكون الصادق المصدوق. وقد قال ﷺ فيما رواه الإمام مسلم: «عليكم بالصدق، فإنّ الصدق يهدي إلى البر، وإنّ البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يُكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذابًا». وهذا الحديث الجليل يبيّن عِظم منزلة الصدق، وخطورة الكذب، فليس الصدق مجرد صفة لغوية في اللسان، بل هو سبيل الهداية، وطريق النجاة، ومدخل الجنة، بينما الكذب سببٌ للفجور، ومؤدٍ إلى النار. وإنّ اللسان أداة الصدق أو الكذب، وهو أخطر ما يكون في حياة المؤمن، فكم من كلمةٍ رفعت صاحبها عند الله، وكم من كذبةٍ أردته في دركات النفاق والهلاك، كما قال النبي ﷺ: «وإنّ العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالًا، يهوي بها في جهنم سبعين خريفًا».

وقد جمع الإسلام أنواع الصدق كلها، فلا يقتصر على صدق اللسان فحسب، بل يتعدّاه إلى صدق النية، وصدق العمل، وصدق الوعد، وصدق العهد، وصدق المظهر، وصدق المعاملة، وصدق المحبة، وصدق التوكل، وصدق العزيمة، وصدق الإخلاص، وصدق التوبة، وكلها مراتب عظيمة لا يبلغها إلا من جاهد نفسه وراقب ربه. فصدق النية أن يقصد الإنسان وجه الله في كل ما يعمل، فلا يرجو رياءً ولا سمعة، وقد قال النبي ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»، وصدق التوبة أن يُقلع العبد عن الذنب ندمًا عليه وعزمًا على عدم العودة إليه، وإصلاحًا لما أفسده. وصدق الوعد أن يفي المسلم بوعده ما استطاع، وإن لم يفعل اعتذر بعذرٍ مقبول، وقد أثنى الله على إسماعيل عليه السلام بقوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}، وصدق الحديث أن لا يقول إلا حقًّا، ولا ينقل إلا صدقًا، ولا يشهد زورًا، ولا يزوّر كلامًا، وقد قال ﷺ: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان».

والصدق في الإسلام لا يتجزّأ، ولا يُقبل أن يكون الإنسان صادقًا في جانب كاذبًا في آخر، بل المطلوب أن يكون صدقًا شاملًا يغمر الحياة كلّها، وأن يُعرف المسلم بأنه صادق في بيعه وشرائه، في حضوره وغيبته، في سره وعلانيته، في دينه ودنياه، ولذلك قال النبي ﷺ: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء»، وهذا من أرفع المنازل. وقد جعل الإسلام الكذب علامةً من علامات النفاق، فقال رسول الله ﷺ: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا اؤتمن خان»، فدلّ ذلك على أنّ الكذب لا يُجامع الإيمان الصادق، ولا يجتمع مع الصلاح.

ولقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في الصدق، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه سُمّي بالصديق لكثرة تصديقه للنبي ﷺ، وخصوصًا حين أخبره بخبر الإسراء والمعراج فآمن به دون تردد، بينما كذّبه الناس، فقال: إن كان قال فقد صدق. وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: “اللهم اجعل سريرتي خيرًا من علانيتي، واجعل علانيتي صالحة”، في إشارة إلى الصدق الباطني مع الله. وهذا كعب بن مالك رضي الله عنه حين تخلّف عن غزوة تبوك وجاء النبيَّ ﷺ فاعترف بذنبه صدقًا دون عذر، فقال النبي ﷺ: «أما هذا فقد صدق»، فكانت صدقته في التوبة سببًا لغفران ذنبه، كما جاء في قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا…}.

ومن صور الصدق التي حثّ عليها الإسلام أيضًا صدق الشهادة، وهو من أعظم المواضع التي يُمتحن فيها الناس، وقد قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}، وقال: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}، فلا يجوز للمسلم أن يشهد زورًا، أو يُدلّس على القاضي، أو يخون أمانة الشهادة. وصدق النصيحة من أبواب الصدق كذلك، فإنّ من يرى أخاه على خطأ ثم لا يُبصّره أو يجامله خشية أو طمعًا، فقد خان النصيحة وكذب في إخلاصه له، وقال النبي ﷺ: «الدين النصيحة».

وسيبقى الصدق رأس الأخلاق ما بقي الإيمان، ولا يستقيم حال الأمة حتى يشيع فيها الصدق في السياسة، والاقتصاد، والإعلام، والعلاقات العامة والخاصة، والتربية، والتعليم، وسائر شؤون الحياة، فإنّ الصدق صلاحٌ للأفراد والمجتمعات، والكذب دمارٌ وهلاك، ولا يُستردّ ثقة الناس، ولا يرفع الله شأن أمةٍ كذّبت، وإن آمنت. فالصدق هو جسر النجاة في الدنيا والآخرة، وهو طريق الأنبياء والصديقين، وهو مفتاح الطمأنينة، وسبب لنيل محبة الله، وبركة في العمر والرزق. ولقد قال النبي ﷺ: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنّ الصدق طمأنينة، والكذب ريبة».

 

 

إنّ الصدق حين يسري في النفس يُطهّرها من الخداع، وينقيها من الغشّ، ويصقلها من شوائب النفاق، فهو تصفية للقلب، وتنوير للبصيرة، وحفظ للضمير، واطمئنان للوجدان، واستقامة في العمل. لا يُخادع الصادق ربَّه، ولا يزخرف الكلام ليُرضي المخلوقين، بل يبذل الحق كما هو، ولو كلّفه ما لا يطيق. فالصادق يقول ما يؤمن به، ويعمل بما يعتقد، ويقف حيث أمره الله، ويثبت في موضع الحق، لا يُغيّره ترغيب ولا يُرغمه ترهيب. ولهذا ارتبط الصدق بالإيمان ارتباطًا لا ينفك، فالمؤمن صادق دائمًا، والمنافق كذّاب لا محالة، كما قال النبي ﷺ: «لا يجتمع الإيمان والكذب في قلب عبد أبدًا». وقد جعل الله الصدق شرطًا للقبول عنده، فقال: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ}، وأثبت لهم المنزلة العليا في الآخرة بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ}، وهي منزلة لا يبلغها إلا من صدق مع الله في عقيدته، ومع الناس في معاملته، ومع نفسه في ضميره.

وحين نتأمل في حياة النبي ﷺ نرى أن الصدق كان خُلقًا أصيلًا لا يفارقه في أقواله وأفعاله، حتى في أدقّ المواطن، ومنها قوله حين نُقل إليه كلام حاطب بن أبي بلتعة، الذي كتب إلى قريش بخبر خروج النبي ﷺ إلى مكة، فغضب عمر رضي الله عنه وقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي ﷺ: «إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعلّ الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، فكان صدق النبي في الحكم على الأعمال بنور الإيمان. وكذلك لما كان يُعرض عليه الملك والمال والنفوذ في مكة مقابل أن يترك الدعوة، كان ردّه الجازم: «والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك دونه»، فهذا هو الصدق في العزيمة، والصدق في الطريق، والصدق في البلاغ.

وفي التربية النبوية للأمة، كان الصدق أولى ما يُغرس في نفوس الأطفال، فقد جاء في الحديث عن عبد الله بن عامر قال: «دعتني أمي يوماً ورسول الله ﷺ قاعدٌ في بيتنا، فقالت: تعالَ أعطك، فقال لها رسول الله ﷺ: وما أردتِ أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمرة، فقال لها رسول الله ﷺ: أما إنك لو لم تعطه شيئًا كُتبت عليك كذبة»، فهكذا يبلغ التعليم النبوي في الصدق إلى أدق المواطن، حتى لا تُزرع الكذبة في نفس الطفل من الصغر، وحتى لا يعتاد أن يقول شيئًا لا يفعله، أو يعد بما لا يفي.

وللصدق أثر بالغ في تماسك المجتمع، فإنّ الثقة بين الناس لا تُبنى إلا على الصدق، وحين يغيب الصدق يعمّ الغش، ويكثر الظلم، وتتفكك الأسر، وتنهار التجارة، وتضعف العلاقات، وتسقط القيم، ويخيم الشكّ، ويستفحل النفاق. ولذا كانت أولى خطوات الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي هي إحياء خلق الصدق، وتهذيب الألسنة، ومحاسبة الضمائر، ومراقبة الله في كل قول وفعل، فحين يصدق الناس ترتفع الكلمة، وتُحترم العقود، وتُصان الأمانات، ويأمن الناس بعضهم بعضًا، ويُصبح المجتمع كالجسد الواحد لا يخذل أعضاؤه بعضهم.

وقد أمر الله تعالى عباده أن يتحرّوا الصدق ولو على أنفسهم، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}، وهذه منزلة لا ينالها إلا من تجرد للحق، وتطهّر من هوى النفس، وارتقى عن المجاملات، وقد قيل: من صدق مع الله في السرّ صدقه الله في العلانية. والصدق لا يُعرف بالكلام المعسول، بل يُعرف بثبات صاحبه عند الابتلاء، فإنّ من يصدق في مواقفه لا يتلوّن مع الأهواء، ولا يُبدّل كلامه حسب المواقف، ولا يُحابي ظالمًا، بل يقول الحق ولو كان مرًّا، ويصدع به ولو واجه سيفًا. وقد قال أبو ذر رضي الله عنه: أمرني خليلي ﷺ أن أقول الحقّ ولو كان مُرًّا.

ولعل من أبلغ صور الصدق، ما كان من أصحاب رسول الله ﷺ حين بايعوه على أن لا يخافوا في الله لومة لائم، فصدقوا في بيعتهم، وصدقوا في هجرتهم، وصدقوا في جهادهم، وصدقوا في نصرتهم للدين، حتى نصر الله بهم الإسلام، وأعزّ بهم الأمة. وكانوا يتحرّون الصدق في كل صغيرة وكبيرة، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما من شيءٍ أحقّ بطول سجنٍ من اللسان، وكان يقول: عليكم بالصدق، فإنّه في الجنة، وإياكم والكذب فإنّه في النار. وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا خطب الناس قال: إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، فالزموا الصدق. فكانت هذه الكلمات دستورًا للأمة، وميزانًا يُفرّق به بين الصادق والخائن.

وليس أعظم صدقًا من الصدق مع الله، وهو أشرف مراتب الصدق، أن يكون العبد صادقًا في توحيده، صادقًا في عبادته، صادقًا في رجائه وخوفه، صادقًا في يقينه، صادقًا في دعائه، لا يلتفت إلى غير الله، ولا يرجو سواه، ولا يُرائي في عبادته أحدًا. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}، فهذا كذب في الإيمان، إذ لم يصبر على الأذى، بينما قال في موضع آخر: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}، فهؤلاء باعوا أنفسهم لله، فصدقوا، ففازوا.

وإذا ما ألقينا النظر في آثار الصدق في حياة الأفراد، نجد أنّه من أعظم الأسباب التي تجلب البركة، وتزيد في الرزق، وتورث راحة الضمير، وطمأنينة القلب، وسعادة النفس، وانشراح الصدر، وذلك أنّ الكاذب مُضطرب بين وجوهٍ شتّى، لا يستقر له حال، ولا يطمئن له بال، كلّما اختلق كذبة اضطُر إلى أن يلفّق أخرى لتسترها، بينما الصادق مطمئنٌ لا يخشى أن يُفضح، ولا يتهيب أن يُسأل، لأنه إنما يبني كلامه على الحق، ويقيم فعله على الإخلاص. وقد قال النبي ﷺ: «الصدق طمأنينة، والكذب ريبة»، وهذا أصل جليل في التربية النفسية، فكما أن الجسد يرتجف عند الجرح، فإن النفس تتألم بالكذب وتضطرب عند الخداع، ولا تهدأ إلا إذا لزمت الصدق وتحلّت بالحق.

والصدق في القضاء مبدأ لا يُنازع فيه، فإن شهادة الزور من أعظم الكبائر، وهي آفة تهدم العدالة، وتُسقط الحقوق، وتُفسد الأحكام، وتُهلك المجتمعات. وقد عدّ النبي ﷺ شهادة الزور من المهلكات، فقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس وقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور» فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. فهذا التكرار النبوي فيه ما فيه من بيان خطر هذه الجريمة التي لا يُرتكبها إلا كاذب، ولا يجرؤ عليها إلا من خلا من مراقبة الله. والعدل لا يستقيم إلا على الصدق، فمن كذب في شهادته ظلم، ومن ظلم خان، ومن خان هدم أساس الأمان في المجتمع.

ثم إن الصدق لا يقتصر على القول فحسب، بل يشمل العمل والعزم والنوايا، قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ … يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ}، فمدحهم لأنهم صدقوا في نواياهم، وعفّوا عن السؤال. وقد بيّن النبي ﷺ أن الصدق في النية يرفع منزلة العبد، حتى وإن لم يُدرك العمل، فقال: «من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه»، فهكذا يكون الصدق مع الله، فهو شعلة تنير الطريق، وإن لم يبلغ المرء المنتهى ببدنه، فإنّه يبلغه بنيّته وصدقه.

وأما في المعاملات، فالصدق حجر الأساس في البيع والشراء والعقود والوصايا، ولا تُثمر تجارة بلا صدق، وقد قال رسول الله ﷺ: «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرّقا، فإن صدقا وبيّنا بُورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتمَا مُحِقَت بركة بيعهما»، فالكذب في التجارة قد يُكسب المرء شيئًا من المال الزائف، ولكنه يُزيل البركة ويجلب السخط، ويؤدي إلى الفقر المعنوي، والخسارة الحقيقية، لأنّ الله لا يبارك في مالٍ اكتُسب بالغش أو الخداع أو المراوغة. وقد قال النبي ﷺ: «من غشّ فليس منا»، والغش ضربٌ من ضروب الكذب، وهو يُخالف مقصد الشريعة في إقامة المروءة والعدل والرحمة بين العباد.

ويرتبط الصدق ارتباطًا وثيقًا بالتقوى، فإنّ المتقي لا يمكن أن يكون كاذبًا، لأنه يراقب الله في سره وعلنه، ولا يقول ما لا يعلم، ولا ينطق إلا بما يرضي الله، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}، فالأمر بالقول السديد جاء متفرعًا عن التقوى، بل إنّ القول السديد من أعظم دلائلها، كما أن ثمرة ذلك قوله بعده: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، فالصدق سبيل المغفرة، ومنبع إصلاح العمل، ومدخل الرحمة الإلهية، ومن أحبّ أن يتقبّل الله منه الطاعات، ويبارك له في الجهد، فليصدق في القول، وليستقم في العمل، وليجعل لسانه موافقًا لقلبه، وجوارحه شاهدة على إخلاصه.

وقد بلغ الصدق في حياة سلف هذه الأمة مقامًا فريدًا، فقد رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا سمع بكذب أحد سقط من عينه، وكان يقول: “عليكم بالصدق وإن قتلكم، فإن فيه النجاة، وإياكم والكذب وإن أنجاكم، فإن فيه الهلكة”. وكان الحسن البصري يقول: “ما زال الصدق يَقلُّ في الناس حتى قال الرجل لصاحبه: كيف أصبحت؟ فيقول: بخير، وهو ليس كذلك”. فتأمل كيف كانوا يتحرّون الصدق حتى في مثل هذا السؤال العابر، خشية أن يتزيّن المرء بغير ما هو فيه، أو يُخفي عن الناس ما يحتاج فيه إلى النصيحة أو الدعاء أو المساعدة. وهذا التورّع دلالة على يقظة الضمير، وصفاء النفس، وكمال الإيمان.

بل إنّ الصدق يُعدّ بابًا من أبواب النجاة من الفتن، ففي زمن التزييف، وكثرة الشبهات، وتعدد الألسنة، لا ينجو إلا من لزم الصدق في دينه، ووقف على هدى القرآن، وسار خلف السنة، وثبت على ما أمر الله به، ولم يُجارِ أهل الباطل، ولم يُمالئ الظلمة، ولم يُداهن في دينه. وقد قال النبي ﷺ: «سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة»، قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه يتكلم في أمر العامة». فهذه الحال من غلبة الكذب لا يُنقذ منها إلا التمسك بالحق والصدق والثبات، فهما سفينة النجاة وسط أمواج الفتن، ونور الهداية في ليل الظلمات.

 

وإذا أمعنّا النظر في منزلة الصدق في العقيدة الإسلامية، وجدنا أنه لبُّ الإيمان، وجوهر الإسلام، وروح التوحيد. فإنّ العبد لا يصحّ إيمانه إلا إذا صدّق بقلبه، ووافق قوله فعله، وكان على يقين مما يدين به، فلا يكون منافقًا يُظهر الإيمان ويُبطن الكفر، ولا مرائيًا يُظهر الخير ويُخفي الشر، ولا مداهنًا يقول ما لا يعتقد. قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾، فهؤلاء كاذبون في دعواهم الإيمان، إذ لم تصدق أقوالهم أفعالهم. بينما أثنى الله على المؤمنين بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾، فكان الإيمان الصادق مقرونًا بعدم الارتياب، أي باليقين والصدق في التصديق.

والوفاء بالعهد من صور الصدق العظيمة، فإنّ العهد عند المؤمن مسؤولية، لا يخون فيه، ولا يُغيّره لهوى أو مصلحة، لأنّ الوفاء أثر من آثار الصدق، قال الله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾، وقال: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾، فمدح المؤمنين بأنهم أمناء أوفياء. والعهود تبدأ من العهد الأكبر، وهو التوحيد، وتنتهي إلى العهود بين الناس، كالبيع والوصايا والمواثيق. وإذا اختلّ الصدق في العهد اختلّ الأمن، وانهار الائتمان، وساد الخداع، وتفككت الثقة، وتبددت الرحمة.

وفي العلاقات الأسرية، فإنّ الصدق هو عمود البيت، وأساس التواصل بين الزوجين، ومرآة التربية في الأبناء. فالكذب يورث الشكّ، ويهدم الاحترام، ويزرع الريبة، ويؤدي إلى الانفصال القلبي وإن لم يقع الانفصال الظاهري. وقد حذّر النبي ﷺ من الكذب بين الزوجين، وإن أباح نوعًا منه بقصد الإصلاح أو الملاطفة، فقال: «ليس الكذّاب الذي يصلح بين الناس، فيقول خيرًا، وينمي خيرًا»، فجعل الغرض من الكلام معيارًا، فإذا كان بقصد الإصلاح والمودة، وكان بعيدًا عن الظلم والغدر، فإنه يُقبل كنوع من التورية لا من الكذب المذموم. أما الأصل، فهو أن يصدق الزوج مع زوجته، وتصدق الزوجة مع زوجها، ويكون كلٌّ منهما موضع أمانٍ للآخر، يُصدّقه ويثق به.

والصدق في تربية الأبناء أعظم غرسٍ أخلاقي، فإنّ الطفل إذا نشأ على الكذب تشوّهت فطرته، وإذا نشأ على الصدق ثبت ضميره وقويَ وجدانه. وقد كان النبي ﷺ يتابع الأطفال في ذلك، كما في حديث عبد الله بن عامر حين قالت له أمه: “تعالَ أُعطِك”، فقال النبي ﷺ: «وما أردتِ أن تعطيه؟»، قالت: “تمرة”، قال: «أما إنك لو لم تعطه، كُتبت عليك كذبة». فهذا غرس مبكر للصدق، وتربية على الدقة في القول، وتعويد على ألا ينطق الإنسان إلا بما يعني، وألا يعد بشيء إلا وهو قادر على الوفاء به. وبهذا تنشأ الأجيال الصادقة التي تقول الصدق، وتعيش على الصدق، وتبني أمتها بالصدق.

والصدق من أسباب النجاة عند الشدائد، فإنّ من صدق في البلاء كشف الله عنه، ومن صدق في التوبة قُبلت توبته، ومن صدق في الجهاد نال إحدى الحسنيين. وقد ورد في الحديث عن الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وكيف صدقوا رسول الله ﷺ حين عاد، ولم يعتذروا بالكذب، فقال الله تعالى عنهم: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ…﴾ إلى قوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، فكان صدقهم سببًا في نزول توبة الله عليهم، وبشارةً للأمة بأن الصدق طريق المغفرة.

وقد نصّ العلماء على أن الصدق أصلٌ من أصول الدين، وعليه تُبنى جميع الأخلاق، فإن من صدق ثبت، ومن ثبت نجا. قال ابن القيم رحمه الله: “الصدق من منازل السائرين، وهو أول منازل القوم، وهو المقام الذي تُبنى عليه سائر المقامات، ومن لا صدق له، لا مقام له”. وقال الإمام الغزالي: “الصدق أساس الأعمال، وبه تُختبر القلوب، ويُعرف الصالح من الطالح، وهو من لُباب الإيمان، وروح الإخلاص”.

Author: ibn alislam

اترك تعليقاً