أحمد الله في الختام كما حمدته في البدء ، وهو أهل للحمد في كل موطن وكل وقت ، وأشكره على توفيقه وعونه ، وهو المتفضل بالتوفيق والعون والمستحق للشكر عليهما ، وأُثني عليه بما هيَّأه لي من أسباب لإتمام هذا البحث ، وهو وحده المستحق للثناء . وبعد:
فهذا أوان الانتهاء , ولزم منه ذكر النتائج والتوصيات , أسأل الله سبحانه أن يجعل فيها النفع والخير للإسلام والمسلمين , وأن يصلح فيها النية والقصد .
- النتائج . يمكن بيان أهم نتائج هذه الدراسة فيما يلي :
1 ـ أن إدارة الأزمات جزء من السياسة الشرعية .
2 ـ وضوح سبق الإسلام ومبادئه في مجال إدارة الأزمات , وصلاحية أحكامه لإدارة الأزمات في كل زمان ومكان .
3 ـ التعريف المختار للسياسة الشرعية هو القول بأنها : فعل شيء لمصلحة معتبرة وإن لم يرد بذلك دليل خاص.
4 ـ ثبوت حجية العمل بالسياسة الشرعية بالأدلة من الكتاب والسنة , والبيان العملي لهذه الحجية في عمل الخلفاء الراشدين بها , واستخدام الفقهاء لمصطلحاتها المعتبرة .
5 ـ أن العمل بالسياسة الشرعية إنما يكون في مجالين :
الأول : أحكام الوقائع التي لا يوجد لها دليل صريح بحكمها في الأدلة الشرعية المعتبرة .
الثاني : الأحكام التي من شأنها ألا تبقى على شكل واحد ، وإنما تختلف باختلاف العصور والأحوال ، وتتبدل بتبدل المصالح ، وتتغير بتغير الظروف والمجتمعات .
6 ـ الأزمة في أبسط مدلولاتها:حالة حرجة تتسارع فيها الأحداث , وتهتز فيها بعض المُسَلَّمات , مما يتطلب جهداً متميزاً لعلاجها والتخفيف من حدتها وتلافي أثرها .
7 ـ الأزمات لم تكن وليدة العصر الحديث , بل كانت ولا زالت موجودة ما وجدت الحياة والأحياء , ومع وجود الأزمات وجدت طرق علاجها , ووسائل التعامل معها. وأما علم إدارة الأزمات فهو ميدانٌ بحثيٌّ جديد لم ينل حظه من الاهتمام العلمي ( الأكاديمي ) إلا في أوائل الستينات الميـلادية , مما يدل على أنه من العلوم الحديثة نسبيا في مجال الفكر الإداري .
8 ـ أن للأزمات أصنافاً عدة تختلف باعتبار النظر إليها .
9ـ أن للأزمات سمات وخصائص تتميز بها , تختلف باختلاف نوع الأزمة وحالها. 10ـ الأسس الإدارية الرئيسة لعلم إدارة الأزمات أربعة , هي:التخطيط ـ التنظيم ـ اتخاذ القرار ـ القيادة ( الرقابة والتوجيه ). ولهذه الأسس الرئيسة ضوابطها المهمة للمتعامل مع الأزمات , أو الدارس لعلم إدارة الأزمات في باب السياسة الشرعية.
11ـ أن لإدارة الأزمات متطلبات مهمة , يلزم دارسها أو المتعامل معها معرفتها والعناية بها , وتتمثل هذه المتطلبات في : الإلمام الإجمالي بالأدلة التشريعية , والإلمام الإجمالي بمداخل العلوم الضرورية ومقدماتها الأساسية , ومعرفة خصائص النظام السياسي الإسلامي وأثرها في إدارة الأزمات .
12ـ أن أهم أنواع الأزمات الرئيسة المرتبطة بالسياسة الشرعية أربعةٌ , هي : الأزمات الفكرية , والأزمات السياسية , والأزمات الأمنية , والأزمات الاقتصادية.
13ـ الأزمات الفكرية هي : الصعوبات والشدائد التي تصيب العقل أو التفكير , أو تصيب نتائجهما من المبادئ والقيم , أو تصيب متعلقهما كالعقائد والأديان ، فتؤثر في ذلك أو في بعضه ، بما يُنتج خللاً أو تشويهاً أو طمساً لشيءٍ من ذلك.
14ـ أن من أوائل الأزمات التي أصابت المسلمين بعد وفاة رسول الله r , أزمة الردة, التي كانت في مجملها بسبب خللٍ في إيمان وتفكير من وقع فيها , ولذلك كانت مواجهة الصديق t لهذه الأزمة وتعامله معها منطلقاً من خلفيةٍ وأصولٍ فكرية , فتعامل معها t بما يتناسب وطبيعتها , وقد كان لسياساته الحكيمة أبلغ الأثر ـ بعد فضل الله ـ في تجاوز هذه الأزمة الخطيرة التي كادت أن تعصف بالأمة الإسلامية في بداية نشأتها.
وقد تمثلت سياسته t في إدارة أزمة الردة في محاور خمسة , هي :
المحور الأول : التثبت من وقوع الردة .
المحور الثاني: بيان الحق وتوضيحه وتجليته للأمة لتكون صفاً واحداً متماسكاً , ولتكون أثناء تعاملها مع الأزمة على دراية وبصيرة , ليكون منطلقها من قناعةٍ واعتقاد .
المحور الثالث: اتخاذ الإجراءات الأمنية والعسكرية لحفظ أمن المدينة وحمايتها من خطر المرتدين.
المحور الرابع: بيان حقيقة الإسلام ودعوة المرتدين للرجوع إليه , وإزالة الشبهات التي أثَّرت عليهم.
المحور الخامس:إعلان الحرب على من لم يرجع إلى الإسلام من المرتدين , وقبول عذر من اعتذر منهم حتى بعد قتاله .
15 ـ الأزمات السياسية هي : المعضلات والشدائد التي تصيب نظام الحكم , أو كيان الدولة ومؤسساتها .
16ـ أن من أخطر الأزمات السياسية التي واجهت الرسول الله r بعد مُهاجره إلى المدينة وبداية تأسيسه للدولة الإسلامية الأولى , كانت أزمة علاقات دولية , تتمثل فيما كان من أزمة العيش في بيئة غير آمنة في المدينة , ويوضح خطورة هذه الأزمة ويبينها كثرة الأطراف التي فرض الموقف آنذاك التعامل معها , وتنوعها واختلاف مشاربها وتوجهاتها.وقد كان لسياسات الرسول r الحكيمة أبلغ الأثر ـ بعد فضل الله ـ في تجاوز هذه الأزمة الخطيرة التي كادت أن تعصف بالدولة الإسلامية في بداية تأسيسها .
وقد تمثلت سياسته r في إدارة هذه الأزمة في مبادرات خمس , هي :
أولا: إدراك خطورة الأزمة ثم المبادرة إلى اتخاذ القرار.
ثانيا: تطمين نفوس المؤمنين المهاجرين والأنصار بالمؤاخاة بينهم .
ثالثا: إبرام معاهدة وثيقة المدينة لحفظ وتثبيت الأمن داخلياً.
رابعاً : إبرام المعاهدات والتحالفات مع القبائل المجاورة للمدينة.
خامساً : البدء في الكفاح المسلح , على قاعدة : الهجوم خير وسيلة للدفاع.
17 ـ الأزمات الأمنية هي : الشدائد والصعوبات التي تزعزع استقرار الناس وتذهب طمأنينتهم , بسبب ضررٍ أو أذىً يهدد سلامتهم وراحتهم .
18 ـ أن من أخطر الأزمات الأمنية التي واجهت الرسول الله r في بداية تأسيس الدولة الإسلامية الأولى ,كانت أزمة اضطراب الأمن عند حصار الأحزاب للمدينـة النبـوية , والتي جاء تصويرها في القرآن الكريم بأبلغ صورةٍ وأحسن مقال متمثلاً فيما ورد في الآيات (9-22) من سورة الأحزاب , وقد واجه r هذه الأزمة الأمنية العاصفة بسياسات كان لها أبلغ الأثر ـ بعد فضل الله ـ في تجاوز هذه الأزمة . وهذه السياسات تتمثل فيما يلي :
أولاً : العمل بمبدأ جمع المعلومات .
ثانياً : العمل بمبدأ الكتمان .
ثالثاً : تأمين الذراري والنساء والصبيان من خطر الأعداء .
رابعاً : بث الإشاعات في صفوف الأعداء للنيل من معنوياتهم .
خامساً : تقديمه r أسلوب الترغيب والتشجيع على أسلوب الأمر في تعامله مع جنده.
سادساً : مشاركته r جنده أعباء العمل .
سابعاً : تقديره r لحاجات جنده والإذن لهم في قضائها .
19 ـ الأزمات الاقتصادية هي : الصعوبات والشدائد التي تصيب أنظمة كسب المال وقواعده , وطرق إنفاقه , وأوجه تنميته .
20 ـ أزمة البطالة من أوضح أمثلة الأزمات الاقتصادية , بل ومن أكبر الأزمات المعاصرة , حيث تأتي في مركز الصدارة من بين أزمات العالم أجمع .
والبطالة في أبسط مدلولاتها تعني : تلك الحالة التي يكون فيها الشخص قادراً على العمل وراغباً فيه ، ولكن لا يجد العمل والأجر المناسبين .
وقد كان لرسول الله r للوقاية من هذه الأزمة سياساتٍ حكيمة, والتعامل الأمثل مع مظاهرها , اتضحت هذه السياسات في أمور ثلاثة :
أولاً : موقفه r من أهم أنواع البطالة الرئيسة(البطالة الإجبارية ـ البطالة الاختيارية).
ثانياً :استفادته r من عدة ركائز مهمة للوقاية من هذه الأزمة , وأهم هذه الركائز :
أ ـ أمْرُه r بالعمل وحثُّه عليه وترغيبه فيه .
ب ـ نهيه r عن المسألة والكدية وعن الاعتماد على الناس في الكسب والمعاش.
ج ـ استفادته r من فرضية الزكاة للوقاية من أزمة البطالة والفقر .
ثالثاً : تطبيق عملي رائع من فعله r في الوقاية من أزمة البطالة , والتعامل الأمثل معها.
هذه أهم نتائج البحث , نسأل الله أن ينفع بها.
- التوصيات .
يوصي الباحث في نهاية البحث بأمورٍ يرى أهميتها :
1 ـ مضاعفة اهتمام أصحاب التخصصات الشرعية للعناية بدراسة علم إدارة الأزمات, وربطه بقواعد السياسة الشرعية وضوابطها المعتبرة .
2 ـ توجيه انتباه الأقسام العلمية ذات التوجه الشرعي وثيقة الصلة بعلم إدارة الأزمات, للعناية بتسجيل الدراسات والبحوث المتخصصة في دراسة هذا العلم وربطه بالأصول الشرعية والقواعد المرعية .
3 ـ العناية بدراسة الأزمات الفكرية والسياسية والأمنية والاقتصادية , دراسة مفصَّلةً متخصِّصة , إذ هي أهم أنواع الأزمات الرئيسة المرتبطة بالسياسة الشرعية وبحاجة الناس ومصالحهم , وكل واحدة من هذه الأنواع تستحق دراسةً مستقلة .
4 ـ قيام وزارات التخطيط ـ وما شابهها ـ في الدول الإسلامية بإنشاء مراكز دراسات متخصِّصة لدراسة الأزمات المتنوعة , ورصدها وتصنيفها , وطرح تلك الدراسات وتسهيل الوصول إليها .
5 ـ إنشاء وحدات متخصصة لإدارة الأزمات المختلفة , وتدريب الجيل القادم على التعامل الأمثل معها , وتوعيتهم في هذا الباب , بإقامة دوراتٍ تدريبيةٍ متخصِّصة , وعقد حلْقات علمية لمناقشة أهم النوازل والمستجدات , وإقامة محاضرات وندوات علمية في هذا المجال.
وختاماً فلا يمكن أن يطمئن كاتب لما كتب ببلوغ الكمال , فذلك ضربٌ من المحال, ويأبى الله إلا أن تكون العصمة لكتابه العزيز , الذي بلغ به سبحانه غاية الإعجاز , حيث أنزله ثم تحدى أحداً أن يأتي بمثل شيءٍ منه ! أما غير هذا الكتاب الكريم , فيكتبه كاتبه ثم يسطر ما استطاع من عبارات الاعتذار والتنويه بالضعف والعجز وقلة الحيلة !: } وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً { (سورة النساء :82) ولله درُّ من صنَّف ثم قال : ” وأنا مع وضعي هذا الكتاب ،ما أبرّئُ نفسي ولا كتابي من خلل وريب، ولا أبيعه بشرط البراءة من كل عيب ، بل أعترف بكمال القصور ، وأسال الله الصفح عما جرى به القلم بهذه السطور ، و أقول لناظر جمعي هذا : لا تأخذ في نفسك عليَّ شيئاً وجدته مغايراً للفهم ، فإن الفهوم قد تختلف ، ومن صنَّف فقد استُهدف ، وأعتذر لك أيها المنصف من خطأ أو زلة ، فالجواد يكبو ، والفتى قد يصبو ، ولا يُعَدُّ إلا فضولات العارف ، وتدخل الزيوف على أعلى الصيارف ، ولا يخفى عليك أن التعقّب على الكتب سيما الطويلة سهل بالنسبة إلى تأليفها ، ووضعها وترصيفها ، حيث يعترض على بانيها من عري في فنه عن القوى والقدر ، بحيث لا يقدر على وضع حجر على حجر،هذا جوابي عما يرد على كتابي “( إتحاف السادة المتقين لمحمد بن محمد الحسيني الزبيدي:1/ 3) .
وبعد : فإنني لا أدعي أنني بذلك بلغتُ الكمال أو قاربته ، ولكنه جهد المُقِلّ ، فما كان فيه من صواب فمن توفيق الله , والحمد لله على ذلك ، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان , واللهُ ورسولُه منه بريئان , وأستغفر الله من ذلك : }إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ {(سورة هود : 88) .
وآخر شيء يكتب أن الحمد لله رب العالمين ، وصلاةً وسلاماً على أشرف الأنبياء المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، اللهم واحشرني معهم ووالدي,وقارئ هذه الرسالة ووالديه وجميع المسلمين ياربَّ العالمين.